فصل: تفسير الآيات رقم (85- 88)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


سورة النمل

مكية وهي ثلاث وتسعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏1‏)‏ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏طس تِلْكَ ءايات القرءان وكتاب مُّبِينٍ‏}‏ أي وآيات كتاب مبين و‏{‏تلك‏}‏ إشارة إلى آيات السورة، والكتاب المبين‏:‏ اللوح، وآياته أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبين للناظرين فيه آياته، أو القرآن وآياته إنه يبين ما أودع فيه من العلوم والحكم وعلى هذا عطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى نحو هذا فعل السخي والجود‏.‏ ونكر الكتاب ليكون أفخم له‏.‏ وقيل‏:‏ إنما نكر الكتاب هنا وعرفه في «الحجر» وعرف القرآن هنا ونكره ثمّ، لأن القرآن والكتاب اسمان علمان للمنزل على محمد عليه الصلاة والسلام ووصفان له لأنه يقرأ ويكتب، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم، وحيث جاء بلفظ التنكير فهو الوصف ‏{‏هُدًى وبشرى‏}‏ في محل النصب على الحال من آيات أي هداية وبشارة فالعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة، أو الجر على أنه بدل من ‏{‏كتاب‏}‏ أو صفة له أو الرفع على هي هدى وبشرى، أو على البدل من ‏{‏آيات‏}‏ أو على أن يكون خبراً بعد خبر ل ‏{‏تلك‏}‏ أي تلك آيات وهادية من الضلالة ومبشرة بالجنة‏.‏ وقيل‏:‏ هدى لجميع الخلق وبشرى ‏{‏لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ خاصة

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 7‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ‏(‏6‏)‏ إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يُقِيمُونَ الصلاة‏}‏ يديمون على فرائضها وسننها ‏{‏وَيُؤْتُونَ الزكواة‏}‏ يؤدون زكاة أموالهم ‏{‏وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ من جملة صلة الموصول‏.‏ ويحتمل أن تتم الصلة عنده وهو استئناف كأنه قيل‏:‏ وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة، ويدل عليه أنه عقد جملة اسمية وكرر فيها المبتدأ الذي هو ‏{‏هم‏}‏ حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم‏}‏ بخلق الشهوة حتى رأوا ذلك حسناً كما قال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏فَهُمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ يترددون في ضلالتهم كما يكون حال الضال عن الطريق ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين لَهُمْ سُوء العذاب‏}‏ القتل والأسر يوم بدر بما كان منهم من سوء الأعمال ‏{‏وَهُمْ فِى الآخرة هُمُ الأخسرون‏}‏ أشد الناس خسراناً لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله ‏{‏وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان‏}‏ لتؤتاه وتلقنه ‏{‏مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ‏}‏ من عند أيّ حكيم وأيّ عليم وهذا معنى تنكيرهما، وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه‏.‏

‏{‏إذ‏}‏ منصوب ب «اذكر» كأنه قال‏:‏ على أثر ذلك خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى عليه السلام ‏{‏قَالَ موسى لاِهْلِهِ‏}‏ لزوجته ومن معه عند مسيره من مدين إلى مصر ‏{‏إِنّى آنَسْتُ‏}‏ أبصرت ‏{‏نَاراً سَئَاتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ‏}‏ عن حال الطريق لأنه كان قد ضله ‏{‏أو ءَاتيكم بشهابٍ‏}‏ بالتنوين‏:‏ كوفي أي شعلة مضيئة ‏{‏قَبَسٍ‏}‏ نار مقبوسة بدل أو صفة‏.‏ وغيرهم ‏{‏بشهاب قبس‏}‏ على الإضافة لأنه يكون قبساً وغير قبس‏.‏ ولا تدافع بين قوله ‏{‏سآتيكم‏}‏ هنا ‏{‏ولعلي آتيكم‏}‏ في القصص مع أن أحدهما ترجٍ والآخر تيقن، لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة، ومجيئه بسين التسويف عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ، أو كانت المسافة بعيدة، «بأو» لأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منها إما هداية الطريق وإما اقتباس النار ولم يدر أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين وهما عز الدنيا والآخرة، واختلاف الألفاظ في هاتين السورتين والقصة واحدة دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى، وجواز النكاح بغير لفظ التزوج‏.‏ ‏{‏لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ‏}‏ تستدفئون بالنار من البرد الذي أصابكم، والطاء بدل من تاء افتعل لأجل الصاد

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏8‏)‏ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءهَا‏}‏ أي النار التي أبصرها ‏{‏نُودِىَ‏}‏ موسى ‏{‏أَن بُورِكَ‏}‏ مخففة من الثقيلة وتقديره ونودي بأنه بورك والضمير ضمير الشأن، وجاز ذلك من غير عوض وإن منعه الزمخشري لأن قوله ‏{‏بورك‏}‏ دعاء والدعاء يخالف غيره في أحكام كثيرة، أو مفسرة لأن في النداء معنى القول أي قيل له بورك أي قدس أو جعل فيه البركة والخير ‏{‏مَن فِى النار وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ أي بورك من في مكان النار وهم الملائكة ومن حول مكانها أي موسى لحدوث أمر ديني فيها وهو تكليم الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه ‏{‏وسبحان الله رَبّ العالمين‏}‏ هو من جملة ما نودي فقد نزه ذاته عما لا يليق به من التشبيه وغيره‏.‏

‏{‏ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم‏}‏ الضمير في ‏{‏إنه‏}‏ للشأن والشأن أنا الله مبتدأ وخبره و‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ صفتان للخبر، أو يرجع إلى ما دل عليه ما قبله أي إن مكلمك أنا والله بيان لأنا و‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ صفتان للمبين، وهو تمهيد لما أراد أن يظهر على يده من المعجزات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏10‏)‏ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَلْقِ عَصَاكَ‏}‏ لتعلم معجزتك فتأنس بها وهو عطف على ‏{‏بورك‏}‏ لأن المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك كلاهما تفسير ل ‏{‏نودي‏}‏ والمعنى قيل له بورك من في النار وقيل له ألق عصاك، ويدل عليه ما ذكر في سورة القصص ‏{‏وأن ألق عصاك‏}‏ بعد قوله ‏{‏أَن يَا موسى إِنّى أَنَا الله‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 30‏]‏ على تكرير حرف التفسير ‏{‏فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ‏}‏ تتحرك حال من الهاء في ‏{‏رَءاهَا‏}‏ ‏{‏كَأَنَّهَا جَانٌّ‏}‏ حية صغيرة حال من الضمير في ‏{‏تهتز‏}‏ ‏{‏وَلِىُّ‏}‏ موسى ‏{‏مُدْبِراً‏}‏ أدبر عنها وجعلها تلي ظهره خوفاً من وثوب الحية عليه ‏{‏وَلَمْ يُعَقّبْ‏}‏ ولم يلتفت أولم يرجع‏.‏ يقال قد عقب فلان إذا رجع يقاتل بعد أن ولى فنودي ‏{‏ياموسى لاَ تَخَفْ إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون‏}‏ أي لا يخاف عندي المرسلون حال خطابي إياهم أولا يخاف لدي المرسلون من غيري ‏{‏إَلاَّ مَن ظَلَمَ‏}‏ أي لكن من ظلم من غيرهم لأن الأنبياء لا يظلمون، أو لكن من ظلم منهم من زل من المرسلين فجاء غير ما أذنت له مما يجوز على الأنبياء كما فرط من آدم ويونس وداود وسليمان عليهم السلام ‏{‏ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً‏}‏ أي أتبع توبة ‏{‏بَعْدَ سُوء‏}‏ زلة ‏{‏فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أقبل توبته وأغفر زلته وأرحمه فأحقق أمنيته وكأنه تعريض بما قال موسى حين قتل القبطي‏:‏ ‏{‏رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى فَغَفَرَ لَهُ‏}‏‏.‏

‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ‏}‏ جيب قميصك وأخرجها ‏{‏تَخْرُجْ بَيْضَاء‏}‏ نيرة تغلب نور الشمس ‏{‏مِنْ غَيْرِ سُوء‏}‏ برص وبيضاء ومن غير سوء حالان ‏{‏في تسع آيات‏}‏ كلام مستأنف و«في» يتعلق بمحذوف أي اذهب في تسع آيات أو وألق عصاك وأدخل يدك في جملة تسع آيات ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ‏}‏ «إلى» يتعلق بمحذوف أي مرسلاً إلى فرعون وقومه ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين‏}‏ خارجين عن أمر الله كافرين

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا‏}‏ أي معجزاتنا ‏{‏مُبْصِرَةً‏}‏ حال أي ظاهرة بينة جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها لملابستهم إياها بالنظر والتفكر فيها، أو جعلت كأنها تبصر فتهدي لأن الأعمى لا يقدر على الاهتداء فضلاً أن يهدي غيره ومنه قولهم «كلمة عيناء وعوراء» لأن الكلمة الحسنة ترشد والسيئة تغوي ‏{‏قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر لمن تأمله وقد قوبل بين المبصرة والمبين ‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا‏}‏ قيل‏:‏ الجحود لا يكون إلا من علم من الجاحد وهذا ليس بصحيح، لأن الجحود هو الإنكار وقد يكون الإنكار للشيء للجهل به وقد يكون بعد المعرفة تعنتاً كذا ذكره في شرح التأويلات‏.‏ وذكر في الديوان يقال جحد حقه وبحقه بمعنى‏.‏ والواو في ‏{‏واستيقنتها‏}‏ للحال و«قد» بعدها مضمرة والاستيقان أبلغ من الإيقان ‏{‏أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم ‏{‏ظُلْماً‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏وجحدوا‏}‏ وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات من عند الله ثم سماها سحراً بيناً ‏{‏وَعُلُوّاً‏}‏ ترفعاً عن الإيمان بما جاء به موسى ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ وهو الإغراق هنا والإحراق ثمة‏.‏

‏{‏ولقد ءاتينا‏}‏ أعطينا ‏{‏داوود وسليمان علماً‏}‏ طائفة من العلم أو علماً سنياً غزيراً والمراد علم الدين والحكم ‏{‏وقالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثيرٍ مّن عباده المؤمنين‏}‏ والآيات حجة لنا على المعتزلة في ترك الأصلح وهنا محذوف ليصح عطف الواو عليه ولولا تقدير المحذوف لكان الوجه الفاء كقولك «أعطيته فشكر»، وتقديره‏:‏ آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه وقالا الحمد لله الذي فضلنا، والكثير المفضل عليه من لم يؤت علماً أو من لم يؤت مثل علمهما، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير‏.‏ وفي الآية دليل على شرف العلم وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من عباده، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة لأنهم القوام بما بعثوا من أجله، وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله على ما أوتوه، وأن يعتقد العالم أنه إن فضل على كثير فقد فضل عليهم مثلهم، وما أحسن قول عمر رضي الله عنه‏:‏ كل الناس أفقه من عمر رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وورث سليمان داود‏}‏ ورث منه النبوة والملك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر قالوا‏:‏ أوتي النبوة مثل أبيه فكأنه ورثه وإلا فالنبوة لا تورث ‏{‏وقال يا أيّها النّاس علّمنا منطق الطّير‏}‏ تشهيراً لنعمة الله تعالى واعترافاً بمكانها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير‏.‏ والمنطق كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، وكان سليمان عليه السلام يفهم منها كما يفهم بعضها من بعض‏.‏ روي أنه صاحب فاختة فأخبر أنها تقول‏:‏ ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاوس فقال‏:‏ يقول‏:‏ كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال‏:‏ يقول‏:‏ استغفروا الله يا مذنبين، وصاح خطاف فقال‏:‏ يقول‏:‏ قدموا خيراً تجدوه‏.‏ وصاحت رحمة فقال‏:‏ تقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه‏.‏ وصاح قمري فأخبر أنه يقول‏:‏ سبحان ربي الأعلى‏.‏ وقال‏:‏ الحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله‏.‏ والقطاة تقول من سكت سلم‏.‏ والديك يقول‏:‏ اذكروا الله ياغافلين والنسر يقول‏:‏ يابن آدم عش ما شئت آخرك الموت‏.‏ والعقاب يقول‏:‏ في البعد من الناس أنس‏.‏ والضفدع يقول‏:‏ سبحان ربي القدوس ‏{‏وأوتينا من كلّ شيءٍ‏}‏ المراد به كثرة ما أوتي كما تقول فلان يعلم كل شيء ومثله ‏{‏وأوتيت من كل شيء‏}‏ ‏{‏إنّ هذا لهو الفضل المبين‏}‏ قوله وارد على سبيل الشكر كقوله عليه السلام‏:‏ «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي أقول هذا القول شكراً ولا أقوله فخراً، والنون في ‏{‏علمنا‏}‏ و‏{‏أوتينا‏}‏ نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً فكلم أهل طاعته على الحال التي كان عليها وليس التكبر من لوازم ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏17‏)‏ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وحشر‏}‏ وجمع ‏{‏لسليمان جنوده من الجنّ والإنس والطّير‏}‏ روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ، خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وابريسم فرسخاً في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب وفضة فيقعد وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فيقعد وحوله، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه حر الشمس، وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر‏.‏ ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرخاء تسيره فأوحى الله تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك أن لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى أنه مر بحراث فقال‏:‏ لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال‏:‏ إني جئت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال‏:‏ لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود ‏{‏فهم يوزعون‏}‏ يحبس أولهم على آخرهم أي يوقف سلاف العسكر حتى يلحقهم التوالي ليكونوا مجتمعين وذلك للكثرة العظيمة‏.‏ والوزع‏:‏ المنع، ومنه قول عثمان رضي الله عنه‏:‏ «ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن»‏.‏

‏{‏حتّى إذا أتوا على واد النّمل‏}‏ أي ساروا حتى إذا بلغوا وادي النمل وهو واد بالشام كثير النمل‏.‏ وعدي ب «على» لأن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء ‏{‏قالت نملةٌ‏}‏ عرجاء تسمى طاخية أو منذرة‏.‏ وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال‏:‏ سلوا عما شئتم فسأله أبو حنيفة رضي الله عنه وهو شاب عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى‏؟‏ فأفحم فقال أبو حنيفة رضي الله عنه‏:‏ كانت أنثى‏.‏ فقيل له‏:‏ بماذا عرفت‏؟‏ فقال‏:‏ بقوله ‏{‏قالت نملة‏}‏ ولو كانت ذكراً لقال قال نملة، وذلك أن النملة مثل الحمامة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي ‏{‏ياأيّها النّمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ ولم يقل «ادخلن» لأنه لما جعلها قائلة والنمل مقولاً لهم كما يكون في أولي العقل أجرى خطابهن مجرى خطابهم ‏{‏لا يحطمنّكم‏}‏ لا يكسرنكم، والحطم الكسر وهو نهي مستأنف وهو في الظاهر نهي لسليمان عن الحطم وفي الحقيقة نهي لهن عن البروز والوقوف على طريقة «لا أرينك هاهنا» أي لا تحضر هذا الموضع‏.‏ وقيل‏:‏ هو جواب الأمر وهو ضعيف يدفعه نون التوكيد لأنه من ضرورات الشعر ‏{‏سليمان وجنوده‏}‏ قيل‏:‏ أراد لا يحطمنكم جنود سليمان فجاء بما هو أبلغ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ لا يعلمون بمكانكم أي لو شعروا لم يفعلوا، قالت ذلك على وجه العذر واصفة سليمان وجنوده بالعدل فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فتبسّم ضاحكاً مّن قولها‏}‏ متعجباً من حذرها واهتدائها لمصالحها ونصيحتها للنمل، أو فرحاً لظهور عدله‏.‏ و‏{‏ضاحكاً‏}‏ حال مؤكدة لأن تبسم بمعنى ضحك وأكثر ضحك الأنبياء التبسم كذا قاله الزجاج ‏{‏وقال ربّ أوزعني‏}‏ ألهمني وحقيقته كفني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك ‏{‏أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ‏}‏ من النبوة والملك والعلم ‏{‏وعلى والديّ‏}‏ لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد ‏{‏وأن أعمل صالحاً ترضاه‏}‏ في بقية عمري ‏{‏وأدخلني برحمتك‏}‏ وأدخلني الجنة برحمتك لا بصالح عملي إذ لا يدخل الجنة أحد إلا برحتمه كما جاء في الحديث ‏{‏في عبادك الصّالحين‏}‏ أي في زمرة أنبيائك المرسلين أو مع عبادك الصالحين‏.‏ روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ‏(‏20‏)‏ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وتفقّد الطّير فقال مالي‏}‏ مكي وعلي وعاصم، وغيرهم بسكون الياء‏.‏ والتفقد صلب ما غاب عنك ‏{‏لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين‏}‏ «أم» بمعنى بل والمعنى أنه تعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد فقال‏:‏ مالي لا أراه على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول‏:‏ بل هو غائب‏.‏ وذكر أن سليمان عليه السلام لما حج خرج إلى اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال فنزل ليصلي فلم يجد الماء وكان الهدهد قنّاقنه وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فتستخرج الشياطين الماء فتفقده لذلك‏.‏ وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال، فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب‏:‏ عليّ به، فارتفع فنظر فإذا هو مقبل فقصده فناشده الله فتركه، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض وقال‏:‏ يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سليمان وعفا عنه ‏{‏لأعذّبنّه عذاباً شديداً‏}‏ بنتف ريشه وإلقائه في الشمس، أو بالتفريق بينه وبين إلفه، أو بإلزامه خدمة أقرآنه، أو بالحبس مع أضداده‏.‏ وعن بعضهم أضيق السجون معاشرة الأضداد‏.‏ أو بإبداعه القفص أو بطرحه بين يدي النمل ليأكله‏.‏ وحل له تعذيب الهدهد لما رأى فيه من المصلحة كما حل ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع، وإذا سخر له الطير لم يتم التسخير إلا بالتأديب والسياسة ‏{‏أو لأذبحنّه أو ليأتينّي‏}‏ بالنون الثقيلة ليشاكل قوله ‏{‏لأعذبنه‏}‏ وحذف نون العماد للتخفيف‏.‏ ‏{‏ليأتيني‏}‏ بنونين‏:‏ مكي الأول للتأكيد والثاني للعماد ‏{‏بسلطانٍ مّبينٍ‏}‏ بحجة له فيها عذر ظاهر على غيبته‏.‏ والإشكال أنه حلف على أحد ثلاثة أشياء‏:‏ اثنان منها فعله ولا مقال فيه، والثالث فعل الهدهد وهو مشكل لأنه من أين درى أنه يأتي بسلطان حتى قال‏:‏ والله ليأتيني بسلطان‏؟‏ وجوابه أن معنى كلامه ليكونن أحد الأمور يعني إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما وليس في هذا دعاء دراية

‏{‏فمكث‏}‏ الهدهد بعد تفقد سليمان إياه، وبضم الكاف غيره عاصم وسهل ويعقوب، وهما لغتان

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ‏(‏22‏)‏ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏غير بعيدٍ‏}‏ أي مكثاً غير طويل أو غير زمان بعيد كقوله «عن قريب» ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان‏.‏ فلما رجع سأله عما لقي في غيبته ‏{‏فقال أحطت‏}‏ علماً شيئاً من جميع جهاته ‏{‏بما لم تحط به‏}‏ ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام مع ما أوتي من فضل النبوة والعلوم الجمة ابتلاء له في علمه، وفيه دليل بطلان قول الرافضة أن الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه ‏{‏وجئتك من سبإٍ‏}‏ غير منصرف‏.‏ أبو عمرو جعله اسماً للقبيلة أو المدينة وغيره بالتنوين جعله اسماً للحي أو الأب الأكبر ‏{‏بنبإٍ يقينٍ‏}‏ النبأ الخبر الذي له شأن، وقوله من ‏{‏سبأ بنبإٍ‏}‏ من محاسن الكلام ويسمى البديع وقد حسن وبدع لفظاً ومعنى هاهنا ألا ترى أنه لو وضع مكان ‏{‏بنبإ‏}‏ بخبر لكان المعنى صحيحاً وهو كما جاء أصح لما في النبإ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال‏.‏

‏{‏إنّي وجدتّ امرأةً‏}‏ هي بلقيس بنت شراحيل وكان أبوها ملك أرض اليمن ولم يكن له ولد غيرها فغلبت على الملك وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس‏.‏ والضمير في ‏{‏تملكهم‏}‏ راجع إلى سبأ على تأويل القوم أو أهل المدينة ‏{‏وأوتيت‏}‏ حال، و«قد» مقدرة ‏{‏من كلّ شيءٍ‏}‏ من أسباب الدنيا ما يليق بحالها ‏{‏ولها عرشٌ‏}‏ سرير عظيم ‏{‏عظيمٌ‏}‏ كبير‏.‏ قيل‏:‏ كان ثمانين ذراعاً في ثمانين ذراعاً وطوله في الهواء ثمانون ذراعاً، وكان من ذهب وفضة وكان مرصعاً بأنواع الجواهر وقوائمه من يا قوت أحمر وأخضر ودر وزمرد، وعليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق‏.‏ واستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم عرضها لذلك، وقد أخفى الله تعالى على سليمان ذلك لمصلحة رآها كما أخفى مكان يوسف على يعقوب عليهما السلام

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 27‏]‏

‏{‏وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏24‏)‏ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏25‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏26‏)‏ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وجدتّها وقومها يسجدون للشّمس من دون الله وزيّن لهم الشّيطان أعمالهم فصدّهم عن السّبيل‏}‏ أي سبيل التوحيد ‏{‏فهم لا يهتدون‏}‏ إلى الحق ولا يبعد من الهدهد التهدي إلى معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وحرمة السجود للشمس إلهاماً من الذلة كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها‏.‏

‏{‏ألاّ يسجدوا‏}‏ بالتشديد أي فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا فحذف الجار مع «أن» وأدغمت النون في اللام، ويجوز أن تكون «لا» مزيدة ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا‏.‏ وبالتخفيف‏:‏ يزيد وعلي، وتقديره‏:‏ ألا يا هؤلاء اسجدوا ف «ألا» للتنبيه و«يا» حرف نداء ومناداه محذوف، فمن شدد لم يقف إلا على العرش العظيم، ومن خفف وقف على ‏{‏فهم لا يهتدون‏}‏ ثم ابتدأ ‏{‏ألا يسجدوا‏}‏ أو وقف على ‏{‏ألايا‏}‏ ثم ابتدأ ‏{‏اسجدوا‏}‏ وسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً بخلاف ما يقوله الزجاج إنه لا يجب السجود مع التشديد، لأن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح للآتي بها أو ذم لتاركها، وإحدى القراءتين أمر والآخرى ذم للتارك ‏{‏لله الذي يخرج الخبء‏}‏ سمى المخبوء بالمصدر ‏{‏في السّماوات والأرض‏}‏ قتادة خبء السماء المطر وخبء الأرض النبات ‏{‏ويعلم ما تخفون وما تعلنون‏}‏ وبالتاء فيهما‏:‏ علي وحفص ‏{‏الله لا إله إلاّ هو ربّ العرش العظيم‏}‏ وصف الهدهد عرش الله بالعظيم تعظيم به بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض، ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك إلى ههنا كلام الهدهد‏.‏

فلما فرغ من كلامه ‏{‏قال‏}‏ سليمان للهدهد ‏{‏سننظر‏}‏ من النظر الذي هو التأمل ‏{‏أصدقت‏}‏ فيما أخبرت ‏{‏أم كنت من الكاذبين‏}‏ وهذا أبلغ من «أم كذبت» لأنه إذا كان معروفاً بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً لا محالة، وإذا كان كاذباً اتهم بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به، ثم كتب سليمان كتاباً صورته‏:‏ من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه وقال للهدهد‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 31‏]‏

‏{‏اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏29‏)‏ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏30‏)‏ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏اذهب بّكتابي هذا فألقه‏}‏ بسكون الهاء تخفيفاً‏:‏ أبو عمرو وعاصم وحمزة، ويختلسها كسراً لتدل الكسرة على الياء المحذوفة‏:‏ يزيد وقالون ويعقوب، ‏{‏فألقهي‏}‏ بإثبات الياء‏:‏ غيرهم ‏{‏إليهم‏}‏ إلى بلقيس وقومها لأنه ذكرهم معها في قوله ‏{‏وجدتها وقومها يسجدون للشمس‏}‏ وبني الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك ‏{‏ثمّ تولّ عنهم‏}‏ تنح عنهم إلى مكان قريب بحيث تراهم ولا يرونك ليكون ما يقولونه بمسمع منك ‏{‏فانظر ماذا يرجعون‏}‏ ما الذي يردونه من الجواب‏.‏ فأخذ الهدهد الكتاب بمنقاره ودخل عليها من كوة فطرح الكتاب على نحرها وهي راقدة وتوارى في الكوة فانتبهت فزعة، أو أتاها والجنود حواليها فرفرف ساعة وألقى الكتاب في حجرها وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم‏.‏

‏{‏قالت‏}‏ لقومها خاضعة خائفة ‏{‏ياأيّها المللأ إنّي‏}‏ وبفتح الياء‏:‏ مدني ‏{‏ألقي إليّ كتابٌ كريمٌ‏}‏ حسن مضمونه وما فيه أو مختوم‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ كرم الكتاب ختمه ‏"‏ وقيل‏:‏ من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به، أو مصدر ببسم الله الرحمن الرحيم أو لأنه من عند ملك كريم ‏{‏إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرّحمن الرّحيم‏}‏ هو تبيين لما ألقى إليها كأنها لما قالت ‏{‏إني ألقي إلى كتاب كريم‏}‏ قيل لها‏:‏ ممن هو وما هو‏؟‏ فقالت‏:‏ ‏{‏إنه من سليمان‏}‏ وإنه كيت وكيت‏.‏ و«أن» فيه ‏{‏ألاّ تعلوا‏}‏ لا تترفعوا ‏{‏عليّ‏}‏ ولا تتكبروا كما يفعل الملوك مفسرة كقوله ‏{‏وانطلق الملأ منهم أن امشوا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 6‏]‏ يعني أي امشوا ‏{‏وأتوني مسلمين‏}‏ مؤمنين أو منقادين وكتب الأنبياء مبنية على الإيجاز والاختصار

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ‏(‏32‏)‏ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ‏(‏33‏)‏ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏قالت يا أيّها المللأ أفتوني في أمري‏}‏ أشيروا علي في الأمر الذي نزل بي‏.‏ والفتوى الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتاء في السن، والمراد هنا بالفتوى الإشارة عليها بما عندهم من الرأي، وقصدها بالرجوع إلى استشارتهم تطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا معها ‏{‏ما كنت قاطعةً أمراً‏}‏ فاصلة أو ممضية حكماً ‏{‏حتّى تشهدون‏}‏ بكسر النون، والفتح لحن لأن النون إنما تفتح في موضع الرفع وهذا في موضع النصب، وأصله تشهدونني فحذفت النون الأولى للنصب والياء لدلالة الكسرة عليها‏.‏ وبالياء في الوصل والوقف‏:‏ يعقوب أي تحضروني وتشيروني وتشهدوا أنه صواب أي لا أبت الأمر إلا بمحضركم‏.‏ وقيل‏:‏ كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل واحد على عشرة الاف‏.‏

‏{‏قالوا‏}‏ مجيبين لها ‏{‏نحن أولوا قوّةٍ وأولوا بأسٍ شديدٍ‏}‏ أرادوا بالقوة قوة الأجساد والآلات وبالبأس النجدة والبلاء في الحرب ‏{‏والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين‏}‏ أي موكول إليك ونحن مطيعون لك فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك كأنهم أشاروا عليها بالقتال، أو أرادوا نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأي والمشورة وأنت ذات الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نتبع رأيك‏.‏ فلما أحست منهم الميل إلى المحاربة مالت إلى المصالحة ورتبت الجواب فزيفت أولاً ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه حيث ‏{‏قالت إنّ الملوك إذا دخلوا قريةً‏}‏ عنوة وقهراً ‏{‏أفسدوها‏}‏ خربوها ‏{‏وجعلوا أعزّة أهلها أذلّةً‏}‏ أذلوا أعزتها وأهانوا أشرافها وقتلوا وأسروا فذكرت لهم سوء عاقبة الحرب ثم قالت ‏{‏وكذلك يفعلون‏}‏ أرادت وهذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير لأنها كانت في بيت الملك القديم فسمعت نحو ذلك ورأت‏.‏ ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأي السديد‏.‏ وقيل‏:‏ هو تصديق من الله لقولها، واحتج الساعي في الأرض بالفساد بهذه الآية‏.‏ ومن استباح حراماً فقد كفر، وإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وإنّي مرسلةٌ إليهم بهديّةٍ‏}‏ أي مرسلة رسلاً بهدية‏.‏

‏{‏فناظرةٌ‏}‏ فمنتظرة ‏{‏بم‏}‏ أي ب «ما» لأن الألف تحذف مع حرف الجر في الاستفهام ‏{‏يرجع المرسلون‏}‏ بقبولها أم بردها لأنها عرفت عادة الملوك وحسن مواقع الهدايا عندهم، فإن كان ملكاً قبلها وانصرف، وإن كان نبياً ردها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه‏.‏ فبعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت وحقاً فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب، وبعثت رسلاً وأمرت عليهم المنذر بن عمرو بدليل قوله تعالى؛ ‏{‏بم يرجع المرسلون‏}‏‏.‏ وكتبت كتاباً فيه نسخة الهدايا وقالت فيه‏:‏ إن كنت نبياً فميز بين الوصفاء والوصائف وأخبر بما في الحق واثقب الدرة ثقباً واسلك في الخرزة خيطاً‏.‏ ثم قالت للمنذر‏:‏ إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظره، وإن رأيته بشاشاً لطيفاً فهو نبي‏.‏ فأقبل الهدهد وأخبر سليمان الخبر كله فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب والفضة وفرشوها في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبنات، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ، والإنس صفوفاً فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك، فلما دنا القوم ورأوا الدواب تروث على اللبن رموا بما معهم من الهدايا، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم سليمان بوجه طلق فأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه وقال‏:‏ أين الحق‏؟‏ فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية وقال للمنذر‏:‏ ‏{‏ارجع إليهم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ‏(‏36‏)‏ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَآء‏}‏ رسولها المنذر بن عمرو ‏{‏سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ‏}‏ بنونين وإثبات الياء في الوصل والوقف‏:‏ مكي وسهل، وافقهما مدني وأبو عمرو في الوصل‏.‏ ‏{‏أتمدوني‏}‏ حمزة ويعقوب في الحالين، وغيرهم بنونين بلا يا ء فيهما، والخطاب للرسل ‏{‏فَمَا ءاتانى الله‏}‏ من النبوة والملك والنعمة‏.‏ وبفتح الباء‏:‏ مدني وأبو عمرو وحفص ‏{‏خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم‏}‏ من زخارف الدنيا ‏{‏بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ‏}‏ الهدية اسم المهدي كما أن العطية اسم المعطي فتضاف إلى المهدي والمهدى له تقول «هذه هدية فلان» تريد هي التي أهداها أو أهديت إليه، والمعنى إن ما عندي خير مما عندكم وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه فكيف يرضى مثلي بأن يمد بمال بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا فلذلك تفرحون بما تزادون ويهدى إليكم لأن ذلك مبلغ همتكم، وحالي خلاف حالكم وما أرضي منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية‏.‏ والفرق بين قولك «أتمدونني بمال وأنا أغنى منكم» وبين أن تقوله بالفاء أني إذا قلته بالواو جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي في الغنى وهو مع ذلك يمدني بمال، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفيت عليه حالي فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده كأني أقول له‏:‏ أنكر عليك ما فعلت فإني غني عنه، وعليه ورد ‏{‏فما آتاني الله‏}‏ ووجه الإضراب أنه لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح إلا أن يهدي إليهم حظ من الدنيا التي يعلمون غيرها‏.‏

‏{‏ارجع إِلَيْهِمْ‏}‏ خطاب للرسول أو الهدهد محملاً كتاباً آخر إليهم ائت بلقيس وقومها ‏{‏فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا‏}‏ لا طاقة لهم بها وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة أي لا يقدرون أن يقابلوهم ‏{‏وَلَنُخْرِجَنَّهُم مّنْهَا‏}‏ من سبأ ‏{‏أَذِلَّةً وَهُمْ صاغرون‏}‏ الذل أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك، والصغار أن يقعوا في أسر واستعباد‏.‏ فلما رجع إليها رسولها بالهدايا وقص عليها القصة قالت‏:‏ هو نبي وما لنا به طاقة ثم جعلت عرشها في آخر سبعة أبيات وغلقت الأبواب ووكلت به حرساً يحفظونه، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك لأنظر ما الذي تدعو إليه، وشخصت إليه في إثني عشر ألف‏.‏ قيل‏:‏ تحت كل قيل ألوف فلما بلغت على رأس فرسخ من سليمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ‏(‏39‏)‏ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ يَا أَيُّهَا الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ‏}‏ أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى به من إجراء العجائب على يده مع إطلاعها على عظم قدرة الله تعالى وعلى ما يشهد لنبوة سليمان، أو أراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها وهذا بعيد عند أهل التحقيق، أو أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ثم ينظر أتثبته أم تنكره اختباراً لعقلها ‏{‏قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن‏}‏ وهو الخبيث المارد واسمه ذكوان ‏{‏أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ‏}‏ مجلس حكمك وقضائك ‏{‏وَإِنّى عَلَيْهِ‏}‏ على حمله ‏{‏لَقَوِىٌّ أَمِينٌ‏}‏ آتي به كما هو لا آخذ منه شيئاً ولا أبدله‏.‏ فقال سليمان عليه السلام‏:‏ أريد أعجل من هذا‏.‏

‏{‏قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب‏}‏ أي ملك بيده كتاب المقادير أرسله الله تعالى عند قول العفريت، أو جبريل عليه السلام، والكتاب على هذا اللوح المحفوظ، أو الخضر أو آصف بن برخيا كاتب سليمان وهو الأصح وعليه الجمهور، وكان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وهو‏:‏ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أو يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً «واحداً» لا إله إلا أنت‏.‏ وقيل‏:‏ كان له علم بمجاري الغيوب إلهاماً ‏{‏أنا ءَاتيك به‏}‏ بالعرش و‏{‏آتيك‏}‏ في الموضعين يجوز أن يكون فعلاً أو اسم فاعل‏.‏ ومعنى قوله ‏{‏قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ‏}‏ أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك‏.‏ ويروى أن آصف قال لسليمان عليه السلام‏:‏ مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد عينيه فنظر نحو اليمن فدعا آصف فغار العرش في مكانه ثم نبع عند مجلس سليمان بقدرة الله تعالى قبل أن يرتد طرفه ‏{‏فَلَمَّا رَءاهُ‏}‏ أي العرش ‏{‏مُسْتَقِرّاً عِندَهُ‏}‏ ثابتاً لديه غير مضطرب ‏{‏قَالَ هذا‏}‏ أي حصول مرادي وهو حضور العرش في مدة ارتداد الطرف ‏{‏مِن فَضْلِ رَبّى‏}‏ عليّ وإحسانه إلي بلا استحقاق مني بل هو فضل خال من العوض صافٍ عن الغرض ‏{‏ليبلونىِ ءَأشكر‏}‏ ليمتحنني أأشكر إنعامه ‏{‏أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ‏}‏ لأنه يحط به عنها عبء الواجب ويصونها عن سمة الكفران ويستجلب به المزيد وترتبط به النعمة، فالشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة‏.‏ وفي كلام بعضهم‏:‏ إن كفران النعمة بوار وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالشكر، واستدم راهنها بكرم الجوار‏.‏ واعلم أن سبوغ ستر الله تعالى متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقاراً أي لم تشكر لله نعمة ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ بترك الشكر على النعمة ‏{‏فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ‏}‏ عن الشكر ‏{‏كَرِيمٌ‏}‏ بالإنعام على من يكفر نعمته، قال الواسطي‏:‏ ما كان منا من الشكر فهو لنا، وما كان منه من النعمة فهو إلينا وله المنة والفضل علينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏41‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا‏}‏ غيروا أي اجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه أسفله ‏{‏نَنظُرْ‏}‏ بالجزم على الجواب ‏{‏أَتَهْتَدِى‏}‏ إلى معرفة عرشها أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه ‏{‏أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءتْ‏}‏ بلقيس ‏{‏قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ‏}‏ «ها» للتنبيه والكاف للتشبيه و«ذا» اسم إشارة ولم يقل «أهذا عرشك» ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً ‏{‏قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ‏}‏ فأجابت أحسن جواب فلم تقل «هو هو» و«لا ليس به» وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتمل للأمرين، أو لما شبهوا عليها بقولهم‏:‏ ‏{‏أهكذا عرشك‏}‏ شبهت عليهم بقولها ‏{‏كَأَنَّهُ هُوَ‏}‏ مع أنها علمت أنه عرشها ‏{‏وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا‏}‏ من كلام بلقيس أي وأوتينا العلم بقدرة الله تعالى وبصحة نبوتك بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة أي إحضار العرش أو من قبل هذه الحالة ‏{‏وَكُنَّا مُسْلِمِينَ‏}‏ منقادين لك مطيعين لأمرك، أو من كلام سليمان وملئه عطفوا على كلامها قولهم‏:‏ وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها، أو أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين موحدين خاضعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏43‏)‏ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله‏}‏ متصل بكلام سليمان أي وصدها عن العلم بما علمناه أو عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين أظهر الكفرة‏.‏ ثم بين نشأها بين الكفرة بقوله ‏{‏إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين‏}‏ أو كلام مبتدأ أي قال الله تعالى وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل، أو صدها الله، أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل‏.‏

‏{‏قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح‏}‏ أي القصر أو صحن الدار ‏{‏فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً‏}‏ ماء عظيماً ‏{‏وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا‏}‏ ‏{‏سأقيها‏}‏ بالهمزة‏:‏ مكي‏.‏ روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه السمك وغيره، ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس‏.‏ وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحقيقاً لنبوته‏.‏ وقيل‏:‏ إن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية‏.‏ وقيل‏:‏ خافوا أن يولد له منها ولد يجمع فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا له‏:‏ إن في عقلها شيئاً وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار، فاختبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليعرف ساقها ورجلها فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا أنها شعراء فصرف بصره ‏{‏قَالَ‏}‏ لها ‏{‏إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ‏}‏ مملس مستو ومنه الأمرد ‏{‏مّن قَوارِيرَ‏}‏ من الزجاج‏.‏ وأراد سليمان تزوجها فكره شعرها فعملت لها الشياطين النورة فأزالته فنكحها سليمان وأحبها وأقرها على ملكها وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له ‏{‏قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى‏}‏ بعبادة الشمس ‏{‏وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ قال المحققون‏:‏ لا يحتمل أن يحتال سليمان لينظر إلى ساقيها وهي أجنبية فلا يصح القول بمثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏46‏)‏ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ‏}‏ في النسب ‏{‏صالحا‏}‏ بدل ‏{‏أَنِ اعبدوا الله‏}‏ بكسر النون في الوصل‏:‏ عاصم وحمزة وبصري، وبضم النون‏:‏ غيرهم اتباعاً للباء، والمعنى بأن اعبدوا الله وحدوه ‏{‏فَإِذَا‏}‏ للمفاجأة ‏{‏هُمْ‏}‏ مبتدأ ‏{‏فَرِيقَانِ‏}‏ خبر ‏{‏يَخْتَصِمُونَ‏}‏ صفة وهي العامل في ‏{‏إِذَا‏}‏ والمعنى فإذا قوم صالح فريقان مؤمن به وكافر به يختصمون فيقول كل فريق الحق معي وهو مبين في قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ قَالُواْ إِنَّا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي أمنتم به كافرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 75‏]‏ وقال الفريق الكافر‏:‏ ‏{‏ياصاح ائتنا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المرسلين‏}‏ ‏{‏‏[‏الأعراف‏:‏ 77‏]‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة‏}‏ بالعذاب الذي توعدون ‏{‏قَبْلَ الحسنة‏}‏ قبل التوبة ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ هلا ‏{‏تَسْتَغْفِرُونَ الله‏}‏ تطلبون المغفرة من كفركم بالتوبة والإيمان قبل نزول العذاب بكم ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ بالإجابة ‏{‏قَالُواْ اطيرنا بِكَ‏}‏ تشاءمنا بك لأنهم قحطوا عند مبعثه لتكذيبهم فنسبوه إلى مجيئه‏.‏ والأصل ‏{‏تَطَيَّرْنَا‏}‏ وقريء به فأدغمت التاء في الطاء وزيدت الألف لسكون الطاء ‏{‏وَبِمَن مَّعَكَ‏}‏ من المؤمنين ‏{‏قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله‏}‏ أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله وهو قدره وقسمته، أو عملكم مكتوب عند الله فإنما نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة ومنه ‏{‏وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13‏]‏ وأصله أن المسافر إذا مر بطائر فيزجره فإن مر سانحاً تيامن، وإذا مر بارحاً تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته، أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ‏}‏ تختبرون أو تعذبون بذنبكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَانَ فِى المدينة‏}‏ مدينة ثمود وهي الحجر ‏{‏تِسْعَةُ رَهْطٍ‏}‏ هو جمع لا واحد له ولذا جاز تمييز التسعة به فكأنه قيل تسعة أنفس، وهو من الثلاثة إلى العشرة‏.‏ وعن أبي دؤاد‏:‏ رأسهم قدار بن سالف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا أبناء أشرافهم ‏{‏يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ‏}‏ يعني أن شأنهم الإفساد البحت لا يخلط بشيء من الصلاح كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح‏.‏ وعن الحسن يظلمون الناس ولا يمنعون الظالمين من الظلم‏.‏ وعن ابن عطاء‏:‏ يتبعون معايب الناس ولا يسترون عوراتهم ‏{‏قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله‏}‏ ‏{‏تحالفوا‏}‏ خبر في محل الحال بإضمار «قد» أي قالوا متقاسمين أو أمر أي أمر بعضهم بعضاً بالقسم ‏{‏لَنُبَيّتَنَّهُ‏}‏ لنقتلنه بياتاً أي ليلاً ‏{‏وَأَهْلَهُ‏}‏ ولده وتبعه ‏{‏ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ‏}‏ لولي دمه ‏{‏لتبيتنه‏}‏ بالتاء وبضم التاء الثانية ثم ‏{‏لتقولن‏}‏ بالتاء وضم اللام‏:‏ حمزة وعلي ‏{‏ماشهدنا‏}‏ ما حضرنا ‏{‏مَهْلِكَ أَهْلِهِ‏}‏ حفص ‏{‏مهلَك‏}‏ أبو بكر وحماد والمفضل من هلك، فالأول موضع الهلاك، والثاني المصدر ‏{‏مُهلَك غيرهم، من أهلك وهو الإهلاك أو مكان الإهلاك أي لم نتعرض لأهله فكيف تعرضنا له‏؟‏ أو ما حضرنا موضع هلاكه فكيف توليناه‏؟‏ ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ فيما ذكرنا‏.‏

‏{‏وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ مكرهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله‏.‏ ومكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة‏.‏ روي أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا‏:‏ زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثالث، فخرجوا إلى الشعب وقالوا‏:‏ إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلاً منهم في مكانه ونجى صالحاً عليه السلام ومن معه

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 55‏]‏

‏{‏فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏53‏)‏ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏54‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ أَنَّا دمرناهم‏}‏ بفتح الألف‏:‏ كوفي وسهل، وبكسرها‏:‏ غيرهم على الاستئناف، ومن فتحه رفعه على أنه بدل من العاقبة، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره‏:‏ هي تدميرهم، أو نصبه على معنى لأنا أو على أنه خبر «كان» أي فكان عاقبة مكرهم الدمار ‏{‏وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ بالصيحة ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً‏}‏ ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط، أو خالية من الخواء، وهي حال عمل فيها ما دل عليه ‏{‏تلك‏}‏ ‏{‏بِمَا ظَلَمُواْ‏}‏ بظلمهم ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ فيما فعل بثمود ‏{‏لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ قدرتنا فيتعظون ‏{‏وَأَنجَيْنَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ بصالح ‏{‏وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ترك أوامره وكانوا أربعة الآف نجوا مع صالح من العذاب‏.‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ‏}‏ واذكر لوطاً، و‏{‏إذ‏}‏ بدل من ‏{‏لوطاً‏}‏ أي واذكر وقت قول لوط ‏{‏لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ أي إتيان الذكور ‏{‏وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها من بصر القلب، أو يرى ذلك بعضهم من بعض لأنهم كانوا يرتكبونها في ناديهم معالنين بها لا يتستر بعضهم من بعض مجانة وانهماكاً في المعصية، أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم‏.‏ ثم صرح فقال ‏{‏أَئِنَّكُمْ‏}‏ بهمزتين‏:‏ كوفي وشامي ‏{‏لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً‏}‏ للشهوة ‏{‏مّن دُونِ النساء‏}‏ أي إن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر ولا الأنثى للأنثى فهي مضادة لله في حكمته ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك، أو أريد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها‏.‏ وقد اجتمع الخطاب والغيبة في قوله ‏{‏بل أنتم قوم تجهلون‏}‏ و‏{‏بل أنتم قوم تفتنون‏}‏ فغلب الخطاب على الغيبة لأنه أقوى إذ الأصل أن يكون الكلام بين الحاضرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏56‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏57‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏58‏)‏ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ‏}‏ أي لوطاً ومتبعيه فخبر «كان» ‏{‏جواب‏}‏ واسمه ‏{‏أن قالوا‏}‏ ‏{‏مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ يتنزهون عن القاذورات ينكرون هذا العمل القذر ويغيظنا إنكارهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو استهزاء كقوله ‏{‏إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد‏}‏ ‏{‏‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏ ‏{‏فأنجيناه‏}‏ فخلصناه من العذاب الواقع بالقوم ‏{‏وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قدرناها‏}‏ بالتشديد سوى حماد وأبي بكر أي قدرنا كونها ‏{‏مِنَ الغابرين‏}‏ من الباقين في العذاب ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ حجارة مكتوباً عليها اسم صاحبها ‏{‏فَسَاء مَطَرُ المنذرين‏}‏ الذين لم يقبلوا الإنذار‏.‏

‏{‏قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى‏}‏ أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بتحميده ثم بالصلاة على المصطفين من عباده توطئه لما يتلوه من الدلالة على وحدانيته وقدرته على كل شيء وهو تعليم لكل متكلم في كل أمر ذي بال بأن يتبرك بهما ويستظهر بمكانهما، أو هو خطاب للوط عليه السلام بأن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم ‏{‏ءَآللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ بالياء‏:‏ بصري وعاصم‏.‏ ولا خير فيما أشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل شيء، وإنما هو إلزام لهم وتهكم بحالهم وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة، فقيل لهم مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثاً لينبهوا على الخطأ المفرط والجهل المورط، وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال‏:‏ ‏"‏ بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم ‏"‏ ثم عدد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله فقال

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ‏(‏60‏)‏ أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏61‏)‏ أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض‏}‏ والفرق بين «أم» و«أم» في ‏{‏أما يشركون‏}‏ و‏{‏أمن خلق السماوات‏}‏ أن تلك متصلة إذ المعنى أيهما خير، وهذه منقطعة بمعنى «بل» والهمزة، ولما قال الله خير أم الآلهة قال بل أمن خلق السماوات والأرض خير، تقريراً لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاءً‏}‏ مطراً ‏{‏فَأَنبَتْنَا‏}‏ صرف الكلام عن الغيبة إلى التكلم تأكيداً لمعنى اختصاص الفعل بذاته وإيذاناً بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والأشكال مع حسنها بماء واحد لا يقدر عليه إلا هو وحده ‏{‏بِهِ‏}‏ بالماء ‏{‏حَدَائِقَ‏}‏ بساتين، والحديقة‏:‏ البستان وعليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة ‏{‏ذَاتُ‏}‏ ولم يقل «ذوات» لأن المعنى جماعة حدائق كما تقول النساء ذهبت ‏{‏بَهْجَةٍ‏}‏ حسن لأن الناظر يبتهج به‏.‏ ثم رشح معنى الاختصاص بقوله ‏{‏مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا‏}‏ ومعنى الكينونة الانبغاء أراد أنّ تأتّى ذلك محال من غيره ‏{‏أءلاه مَّعَ الله‏}‏ أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له ‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ‏}‏ به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد و‏{‏بل هم‏}‏ بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم‏.‏

‏{‏أَمَّن جَعَلَ الأرض‏}‏ وما بعده بدل من ‏{‏أمن خلق‏}‏ فكان حكمها حكمه ‏{‏قَرَاراً‏}‏ دحاها وسواها للاستقرار عليها ‏{‏وَجَعَلَ خِلاَلَهَا‏}‏ ظرف أي وسطها وهو المفعول الثاني والأول ‏{‏أَنْهَاراً‏}‏ وبين البحرين مثله ‏{‏وَجَعَلَ لَهَا‏}‏ للأرض ‏{‏رَوَاسِىَ‏}‏ جبالاً تمنعها عن الحركة ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين‏}‏ العذب والمالح ‏{‏حَاجِزاً‏}‏ مانعاً أن يختلطا ‏{‏أءلاه مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ التوحيد فلا يؤمنون ‏{‏أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ‏}‏ الاضطرار افتعال من الضرورة وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ‏.‏ يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر، والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرع إلى الله، أو المذنب إذا استغفر، أو المظلوم إذا دعا، أو من رفع يديه ولم ير لنفسه حسنة غير التوحيد وهو منه على خطر ‏{‏وَيَكْشِفُ السوء‏}‏ الضر أو الجور ‏{‏وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض‏}‏ أي فيها وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن، أو أراد بالخلافة الملك والتسلط ‏{‏أءلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ وبالياء‏:‏ أبو عمرو، وبالتخفيف‏:‏ حمزة وعلي وحفص‏.‏ و«ما» مزيدة أي تذكرون تذكراً قليلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 65‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏63‏)‏ أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّن يَهْدِيكُمْ‏}‏ يرشدكم بالنجوم ‏{‏فِى ظلمات البر والبحر‏}‏ ليلاً وبعلامات في الأرض نهاراً ‏{‏وَمَن يُرْسِلُ الرياح‏}‏ ‏{‏الريح‏}‏ مكي وحمزة وعلى ‏{‏بشرًا‏}‏ من البشارة وقد مرّ في «الأعراف» ‏{‏بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ‏}‏ قدام المطر ‏{‏أءلاه مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الخلق‏}‏ ينشيء الخلق ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ وإنما قيل لهم ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ وهم منكرون للإعادة لأنه أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار فلم يبق لهم عذر في الإنكار ‏{‏وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء‏}‏ أي المطر ‏{‏والأرض‏}‏ أي ومن الأرض النبات ‏{‏أءلاه مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ برهانكم‏}‏ حجتكم على إشراككم ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ في دعواكم أن مع الله إلهاً آخر‏.‏

‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله‏}‏ ‏{‏من‏}‏ فاعل ‏{‏يعلم‏}‏ و‏{‏الغيب‏}‏ هو ما لم يقم عليه دليل ولا أطلع عليه مخلوق مفعول و‏{‏الله‏}‏ بدل مِن ‏{‏مَن‏}‏ والمعنى لا يعلم أحد الغيب إلا الله‏.‏ نعم إن الله تعالى يتعالى عن أن يكون ممن في السماوات والأرض ولكنه جاء على لغة بني تميم حيث يجرون الاستثناء المنقطع مجرى المتصل ويجيزون النصب والبدل في المنقطع كما في المتصل ويقولون ما في الدار أحد إلا حمار‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ وما يعلمون ‏{‏أَيَّانَ‏}‏ متى ‏{‏يُبْعَثُونَ‏}‏ ينشرون

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ ادرك‏}‏ ‏{‏أدرك‏}‏ مكي وبصري ويزيد والمفضل أي انتهى وتكامل من أدركت الفاكهة تكاملت نضجاً ‏{‏بَلِ ادارك‏}‏ عن الأعشى افتعل‏.‏ ‏{‏بَلِ ادّارك‏}‏ غيرهم استحكم وأصله تدارك فأدغمت التاء في الدال وزيد ألف الوصل ليمكن التكلم بها ‏{‏عِلْمُهُمْ فِى الآخرة‏}‏ أي في شأن الآخرة ومعناها، والمعنى أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون وذلك قوله ‏{‏بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ‏}‏ والإضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم وتكرير لجهلهم، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى‏.‏ وقد جعل الآخرة مبتدأ عماهم ومنشأة فلذا عداه ب «من» دون «عن» لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التدبر والتفكر‏.‏ ووجه ملاءمة مضمون هذه الآية وهو وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب وأن العباد لا علم لهم بشيء منه، أنه لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب وكان هذا بياناً لعجزهم ووصفاً لقصور علمهم، وصل به أن عندهم عجزاً أبلغ منه وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه وهو وقت جزاء أعمالهم لا يكون مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به‏.‏ وجاز أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكماً بهم كما تقول لأجهل الناس «ما أعلمك» على سبيل الهزؤ وذلك حيث شكوا عموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك فضلاً أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته، ويجوز أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولك «أدركت الثمرة» لأن تلك غايتها التي عندها تعدم، وقد فسرها الحسن بإضمحل علمهم في الآخرة‏.‏ وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 71‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ‏(‏67‏)‏ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏69‏)‏ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏70‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءذَا كُنَّا تُرَاباً وَءابَاؤُنَا أَءنَّا لَمُخْرَجُونَ‏}‏ من قبورنا أحياء وتكرير حرف الاستفهام في ‏{‏أءذا‏}‏ و‏{‏أءنا‏}‏ في قراءة عاصم وحمزة وخلف، إنكار بعد إنكار وجحود عقيب جحود ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه‏.‏ والعامل في ‏{‏إذا‏}‏ ما دل عليه ‏{‏لمخرجون‏}‏ وهو نخرج لأن اسم الفاعل والمفعول بعد همزة الاستفهام، أو إن «أو لام الابتداء لا يعمل فيما قبله فكيف إذا اجتمعن»‏؟‏ والضمير في «إنا» لهم ولآبائهم لأن كونهم تراباً قد تناولهم وآباءهم لكنه غلبت الحكاية على الغائب، و‏{‏آباؤنا‏}‏ عطف على الضمير في ‏{‏كنا‏}‏ لأن المفعول جرى مجرى التوكيد ‏{‏لَقَدْ وُعِدْنَا هذا‏}‏ أي البعث ‏{‏نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قدم هنا ‏{‏هذا‏}‏ على ‏{‏نحن وآباؤنا‏}‏ وفي المؤمنون ‏{‏نحن وآباؤنا‏}‏ على ‏{‏هذا‏}‏ ليدل على أن المقصود بالذكر هو البعث هنا وثمة المبعوثون ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين‏}‏ ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم ‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين‏}‏ أي آخر أمر الكافرين‏.‏ وفي ذكر الإجرام لطف بالمسلمين في ترك الجرائم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 15‏]‏ وقوله ‏{‏مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ لأجل أنهم لم يتبعوك ولم يسلموا فيسلموا ‏{‏وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ‏}‏ في حرج صدر ‏{‏مّمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ من مكرهم وكيدهم لك فإن الله يعصمك من الناس‏.‏ يقال ضاق الشيء ضيقاً بالفتح وهو قراءة غير ابن كثير وبالكسر وهو قراءته ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ أي وعد العذاب ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أن العذاب نازل بالمكذب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 76‏]‏

‏{‏قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏72‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏74‏)‏ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏75‏)‏ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم عسى أن يكون ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم وأزف لكم ومعناه تبعكم ولحقكم، وعسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجده فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ‏}‏ أي إفضال ‏{‏عَلَى الناس‏}‏ بترك المعاجلة بالعذاب ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ أي أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه فيستعجلون العذاب بجهلهم ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ‏}‏ تخفي ‏{‏صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ يظهرون من القول فليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم ولكن له وقت مقدر، أو أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه‏.‏ وقرى ‏{‏تكنّ‏}‏ يقال كننت الشيء وأكننته إذا سترته وأخفيته ‏{‏وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السماء والأرض إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏ سمى الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية، والتاء فيهما كالتاء في العاقبة والعافية ونظائرهما الرمية والذبيحة والنطيحة في أنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة كالراوية كأنه قال‏:‏ وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المحفوظ‏.‏ والمبين الظاهر البيّن لمن ينظر فيه من الملائكة‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل‏}‏ أي يبين لهم ‏{‏أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ فإنهم اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزاباً ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضاً، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا يريد اليهود والنصارى

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 81‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ‏(‏79‏)‏ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏80‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّهُ‏}‏ وإن القرآن ‏{‏لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ‏}‏ لمن أنصف منهم وآمن أي من بني إسرائيل أو منهم ومن غيرهم ‏{‏إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم‏}‏ بين من آمن بالقرآن ومن كفر به ‏{‏بِحُكْمِهِ‏}‏ بعدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً، أو بحكمته ويدل عليه قراءة من قرأ ‏{‏بحكمه‏}‏ جمع حكمة ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ فلا يرد قضاؤه ‏{‏العليم‏}‏ بمن يقضي له وبمن يقضي عليه أو العزيز في انتقامه من المبطلين العليم بالفصل بينهم وبين المحقين ‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين ‏{‏إِنَّكَ عَلَى الحق المبين‏}‏ وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج وهو الدين الواضح الذي لا يتعلق به شك، وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله وبنصرته ‏{‏إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم‏}‏ لما كانوا لا يعون ما يسمعون ولا به ينتفعون، شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس، وبالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون، وبالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويجعلهم هداة بصراء إلا الله تعالى‏.‏ ثم أكد حال الصم بقوله ‏{‏إذا ولوا مدبرين‏}‏ لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته، ‏{‏ولا يسمع الصُّمُّ‏}‏ مكي وكذا «في الروم» ‏{‏وَمَا أَنتَ تَهْدِى العمى‏}‏ وكذا في «الروم»‏:‏ حمزة ‏{‏إِنْ تُسْمعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بآياتنا‏}‏ أي ما يجدي إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته أي يصدقون بها ‏{‏فَهُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ مخلصون من قوله ‏{‏بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏ يعني جعله سالماً لله خالصاً له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 84‏]‏

‏{‏وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ‏(‏82‏)‏ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏83‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم‏}‏ سمى معنى القول ومؤداه بالقول وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه حصوله والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة ‏{‏أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض تُكَلّمُهُمْ‏}‏ هي الجساسة، في الحديث‏:‏ طولها ستون ذراعاً لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان‏.‏ وقيل‏:‏ لها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن أيّل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هرة وذنب كبش وخف بعير، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية فتقول ‏{‏أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏}‏ أي لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات وتقول‏:‏ ألا لعنة الله على الظالمين‏.‏ أو تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام، أو بأن هذا مؤمن وهذا كافر‏.‏ وفتح ‏{‏أن‏}‏ كوفي وسهل على حذف الجار أي تكلمهم بأن، وغيرهم كسروا لأن الكلام بمعنى القول، أو بإضمار القول أي تقول الدابة ذلك ويكون المعنى بآيات ربنا أو حكاية لقول الله تعالى عند ذلك‏.‏ ثم ذكر قيام الساعة فقال ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً‏}‏ «من» للتبعيض أي واذكر يوم نجمع من كل أمة من الأمم زمرة ‏{‏مّمَّن يُكَذّبُ‏}‏ «من» للتبيين ‏{‏بئاياتنا‏}‏ المنزلة على أنبيائنا ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى موضع الحساب وهذه عبارة عن كثرة العدد، وكذا الفوج عبارة عن الجماعة الكثيرة ‏{‏حتى إِذَا جَآءُو‏}‏ حضروا موقف الحساب والسؤال ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم تعالى تهديداً ‏{‏أكذبتم بآياتي‏}‏ المنزلة على رسلي ‏{‏وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً‏}‏ الواو للحال كأنه قال‏:‏ أكذبتم بآياتي بادئ الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب ‏{‏أَمَّاذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ حيث لم تتفكروا فيها فإنكم لم تخلقوا عبثاً

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 88‏]‏

‏{‏وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏85‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏86‏)‏ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ‏(‏87‏)‏ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ‏}‏ أي يغشاهم العذاب الموعود بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 35‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا اليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً‏}‏ حال، جعل الإبصار للنهار وهو لأهله والتقابل مراعى من حيث المعنى لأن معنى ‏{‏مبصراً‏}‏ ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يصدقون فيعتبرون، وفيه دليل على صحة البعث لأن معناه ألم يعلموا أنا جعلنا الليل والنهار قواماً لمعاشهم في الدنيا ليعلموا أن ذلك لم يجعل عبثاً بل محنة وابتلاء ولا بد عند ذلك من ثواب وعقاب فإذا لكم يكونا في هذه الدار فلا بد من دار أخرى للثواب والعقاب ‏{‏وَيَوْمَ‏}‏ واذكر يوم ‏{‏يُنفَخُ فِى الصور‏}‏ وهو قرن أو جمع صورة والنافخ إسرافيل عليه السلام ‏{‏فَفَزِعَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض‏}‏ اختير «فزع» على «يفزع» للإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون ‏{‏إِلاَّ مَن شَاء الله‏}‏ إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة قالوا‏:‏ هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام لأنه صعق مرة، ومثله ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله‏}‏‏)‏ الزمر‏:‏ 68‏)‏ ‏{‏وَكُلٌّ أَتَوْهُ‏}‏ حمزة وحفص وخلف، ‏{‏اتوه‏}‏ غيرهم وأصله «آتيوه» ‏{‏داخرين‏}‏ حال أي صاغرين ومعنى الإتيان حضورهم الموقف ورجوعهم إلى أمره تعالى وانقيادهم له‏.‏

‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا‏}‏ بفتح السين‏:‏ شامي وحمزة ويزيد وعاصم، وبكسرها‏:‏ غيرهم حال من المخاطب ‏{‏جَامِدَةً‏}‏ واقفة ممسكة عن الحركة من جمد في مكانه إذا لم يبرح ‏{‏وَهِىَ تَمُرُّ‏}‏ حال من الضمير المنصوب في ‏{‏تحسبها‏}‏ ‏{‏مَرَّ السحاب‏}‏ أي مثل مر السحاب والمعنى أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد لعظمها وهي تسير سيراً سريعاً كالسحاب إذا ضربته الريح، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها كما قال النابغة في صفة جيش

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم *** وقوف الحاج والركاب تهملج

‏{‏صُنْعَ الله‏}‏ مصدر عمل فيه ما دل عليه ‏{‏تمر‏}‏ لأن مرورها كمر السحاب من صنع الله فكأنه قيل‏:‏ صنع الله ذلك صنعاً وذكر اسم الله لأنه لم يذكر قبل ‏{‏الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَئ‏}‏ أي أحكم خلقه ‏{‏إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏{‏يفعلون‏}‏ مكي وبصري غير سهل وأبو بكر غير يحي، وغيرهم بالتاء أي أنه عالم بما يفعل العباد فيكافئهم على حسب ذلك‏.‏

ثم لخص ذلك بقوله

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ‏(‏89‏)‏ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏مَن جَاء بالحسنة‏}‏ أي بقول لا إله إلا الله عند الجمهور ‏{‏فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا‏}‏ أي فله خير حاصل من جهتها وهو الجنة، وعلى هذا لا يكون ‏{‏خير‏}‏ بمعنى أفضل ويكون ‏{‏منها‏}‏ في موضع رفع صفة ل ‏{‏خير‏}‏ أي بسببها ‏{‏وَهُمْ مّن فَزَعٍ‏}‏ كوفي أي من فزع شديد مفرط الشدة وهو خوف النار أو من فزع ما وإن قل، وبغير تنوين غيرهم ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ كوفي ومدني، وبكسر الميم غيرهم والمراد يوم القيامة ‏{‏ءامِنُونَ‏}‏ «أمن» يعدى بالجار وبنفسه كقوله ‏{‏أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 99‏]‏ ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة‏}‏ بالشرك ‏{‏فَكُبَّتْ‏}‏ ألقيت ‏{‏وُجُوهُهْم فِى النار‏}‏ يقال كببت الرجل ألقيته على وجهه أي ألقوا على رؤوسهم في النار، أو عبر عن الجملة بالوجه كما يعبر بالرأس والرقبة عنها أي ألقوا في النار ويقال لهم تبكيتاً عند الكب ‏{‏هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا من الشرك والمعاصي

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 93‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏91‏)‏ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ‏(‏92‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة‏}‏ مكة ‏{‏الذى حَرَّمَهَا‏}‏ جعلها حرماً آمناً يأمن فيها اللاجيء إليها ولا يختلي خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها ‏{‏وَلَهُ كُلُّ شَئ‏}‏ مع هذه البلدة فهو مالك الدنيا والآخرة ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين‏}‏ المنقادين له‏.‏

‏{‏وَأَنْ أَتلُوَا القرءان‏}‏ من التلاوة أو من التلو كقوله‏:‏ ‏{‏واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 2‏]‏ أمر رسوله بأن يقول أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة ولا اتخذ له شريكاً كما فعلت قريش، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام، وأن أتلو القرآن لأعرف الحلال والحرام وما يقتضيه الإسلام‏.‏ وخص مكة من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأعظمها عنده وأشار إليها بقوله ‏{‏هذه‏}‏ إشارة تعظيم لها وتقريب دالاً على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه، ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما ‏{‏فَمَنُ اهتدى‏}‏ باتباعه إياي فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفي الشركاء عنه والدخول في الملة الحنيفية واتباع ما أنزل عليّ من الوحي ‏{‏فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ‏}‏ فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إليّ ‏{‏وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين‏}‏ أي ومن ضل ولم يتبعني فلا عليّ وما أنا إلا رسول منذر ‏{‏وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ ‏(‏العنكبوت‏)‏ ‏{‏وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءاياته فَتَعْرِفُونَهَا‏}‏ ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوة التي لا توازيها نعمة، وأن يهدد أعداءه بما سيريهم الله من آياته في الآخرة فيستيقنون بها‏.‏ وقيل‏:‏ هو انشقاق القمر والدخان وما حل بهم من نقمات الله في الدنيا ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ بالتاء مدني وشامي وحفص ويعقوب خطاب لأهل مكة، وبالياء غيرهم أي كل عمل يعملونه فإن الله عالم به غير غافل عنه فالغفلة والسهو لا يجوزان عليه‏.‏